منذ سنتين
في الأول من مايو/أيار الحالي، كان الجنود الأتراك في قاعدة "زيليكان" الواقعة شمال العراق، وهي واحدة من مجموعة قواعد تركية أُنشئت في إقليم كردستان العراق، غارقين في أداء مهامهم العسكرية الاعتيادية رغم الخطر المستمر باحتمال استهداف القاعدة بالصواريخ، إذ سبق أن استُهدِفَت القاعدة عدة مرات آخرها في إبريل/نيسان الماضي. وقد وُجِّهَت أصابع الاتهام آنذاك في إطلاق أربعة إلى ستة صواريخ على القاعدة نحو الميلشيات العراقية الموالية لإيران في محافظة نينوى، إذ حملت هجمات مماثلة سابقة البصمة ذاتها من خلال الصواريخ ذات العيار 107 ملم التي تملكها الميليشيات الشيعية.
لم تُخفِ تلك الميليشيات في أي وقت حقيقة ترصُّدها للوجود التركي، ويمكن قراءة ذلك في بيان كتائب حزب الله العراق، وهي جماعة مدعومة من إيران هدَّدت أنقرة قائلة إن "السكين وصلت إلى العظم"، في إشارة إلى عمليات تركيا العسكرية في شمال العراق. وفي أعقاب تهديدات أنقرة الأخيرة بالتدخُّل العسكري في المنطقة، عزَّزت تلك الميليشيات من وجودها في سنجار العراقية، فنشرت ثلاثة ألوية، علاوة على نشر الحشد الشعبي 15 ألف مقاتل لمواجهة أي تهديد عسكري تركي.
باختصار، أثار احتمال حدوث توغُّل تركي غضب تلك الميليشيات، حيث ترى طهران الآن أن الوجود التركي المتزايد في العراق تَعَدٍّ على مجال نفوذها، فهي تهتم بحماية هيمنتها في سنجار لأهميتها بوصفها نقطة وصول إلى سوريا. ومن أجل ذلك تريد إيران استغلال نفوذها وعلاقتها مع حزب العمال الكردستاني -الذي تُصنِّفه تركيا منظمة إرهابية- من جهة والحشد الشعبي من جهة أخرى لبسط نفوذها أكثر في العراق وتحجيم الوجود التركي، وخاصة في مناطق سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يُعَدُّ حليفا مهما لتركيا وتتهمه طهران بدعم أحزاب كردية معارضة للنظام الإيراني. كما تحاول إيران استغلال علاقاتها مع حزب العمال للضغط على تركيا وكسب تنازلات منها سواء في العراق أو سوريا.
معركة إقليمية على أرض العراق
بعد قرابة أربعة عقود من الصراع التركي مع حزب العمال الكردستاني، يمكن القول إن عام 2014 الذي تولى فيه المقاتلون الأكراد مهمة قتال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) شكَّل محطة مهمة للأتراك الذين راقبوا في البداية مآلات سيطرة داعش على أراضٍ عراقية وسورية، ثم وجدوا أنفسهم في خطر أمام تقدُّم قوات سوريا الديمقراطية (الكردية) التي أنشأت منطقة شبه مستقلة في شمال سوريا، وعزَّزت سيطرتها على الأراضي التي استحوذت عليها من تنظيم داعش.
سرعان ما توجَّهت أنقرة مع الفصائل السورية التي دعمتها نحو استعادة المدن التي سيطر عليها الأكراد، فبينما انطلقت أنقرة مدعومة بتخوفاتها الأمنية نحو زيادة ضرباتها الجوية ضد مقاتلي حزب العمال في جنوب شرق تركيا، وشن عمليات عسكرية في سوريا ضد وحدات حماية الشعب وتنظيم داعش، فإنها شنَّت هجوما على عفرين في يناير/كانون الثاني 2018، واستولت في نهاية المطاف على المدينة في مارس/آذار 2018، كما هدَّدت بشن هجمات على مناطق أخرى يسيطر عليها الأكراد داخل سوريا.
بيد أن طرد مسلحي داعش من المناطق التي سيطروا عليها ذهب بالأتراك إلى ما هو أبعد من سوريا، إذ وصلوا إلى سنجار شمالي غربي العراق، وهي الموطن التاريخي للأقلية الإيزيدية الكردية. فتلك المنطقة التي يسميها الأكراد "شنكال" شهدت صراعا كبيرا مع داعش، وبعد طرد مسلحي التنظيم سيطر عليها مقاتلو حزب العمال الذين جاءوا لمساعدة الإيزيديين. ولم يكتفِ حزب العمال بتشكيل إدارة خاصة بالمنطقة هي وحدات المقاومة الإيزيدية المعروفة بـ"وحدات مقاومة سنجار" (YBS)، بل أنشأوا قاعدة لهم هناك. ولم ترَ أنقرة في موطئ قدم الحزب بسنجار إلا ربطا خطيرا بين قواعد الجماعة القديمة في جبال كردستان العراق وشمال سوريا، وكذلك لم ترَ في القاعدة اللوجستية الخاصة بها إلا ربطا خطيرا بين عمليات الحزب في شمال شرق سوريا وقواعده الكامنة في تركيا وجبال قنديل العراقية.
بالإضافة إلى ما سبق، ألقى انعدام الثقة الكبير من قِبَل الإيزيديين تجاه الجيش العراقي وقوات البشمرجة بظلاله على العلاقات الداخلية بذريعة تخلي تلك الأطراف عن سنجار خلال الحملة على داعش، فمضت وحدات مقاومة سنجار المرتبطة بحزب العمال نحو تأكيد وجودها في المنطقة والتحالف مع الحشد الشعبي الشيعي الذي تبنَّت وحداته موقفا عدائيا ضد عمليات تركيا.
حزب العمال حاول منذ سيطرته على منطقة سنجار عام 2014 تحقيق عدة مكاسب، أهمها جعل المدينة حلقة وصل بين مناطق نفوذه، ومن ثمَّ تسهيل حركة المقاتلين والسلاح بين المنطقتين.
في حديثه مع "ميدان"، قال الباحث في الشؤون الكردية "عبد الرحيم سعيد تخوبي" إن حزب العمال حاول منذ سيطرته على منطقة سنجار عام 2014 تحقيق عدة مكاسب، أهمها جعل المدينة حلقة وصل بين مناطق نفوذه في سوريا وكردستان العراق، ومن ثمَّ تسهيل حركة المقاتلين والسلاح بين المنطقتين: "استغل حزب العمال مناطق نفوذه في سنجار لتجنيد أكبر عدد من المقاتلين، فانضم فصيل من وحدات حماية ’شنكال‘ التابع للعمال الكردستاني إلى الحشد الشعبي لإضفاء نوع من الشرعية عليه، وإظهاره على أنه قوة عراقية، وقوبلت تلك الخطوة بالترحيب من قِبَل الحشد بسبب خلافات الأخير مع حكومة كردستان العراق، وخاصة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يقوده مسعود البرزاني، ورغبة إيران باستغلال علاقاتها مع حزب العمال للضغط على تركيا وكسب تنازلات منها في سوريا والعراق".
بطبيعة الحال، استشعرت أنقرة خطورة الوضع في سنجار واحتمالات خروجه عن السيطرة، ولذا أرادت قطع الطريق بين مناطق الحزب في سوريا والعراق وممرات الإمداد العسكري والاقتصادي الخاصة به، وقال تخوبي في هذا الصدد: "يُعَدُّ ذلك جزءا من إستراتيجية أنقرة في تقسيم مناطق حزب العمال إلى مُربَّعات مُحاصَرة من حلفاء تركيا في سوريا والعراق، وهذا ما فعلته في عفرين عام 2018 وفي رأس العين وتل أبيض عام 2019، إذ أصبح الحزب مُحاصَرا في ريف حلب الشمالي من النظام السوري وحلفاء تركيا من الفصائل المسلحة".
خيارات بغداد الصعبة
لم تكن الحكومة في بغداد راضية عن الوضع في سنجار، فمنذ استفتاء الاستقلال الكردي في أكتوبر/تشرين الأول 2017 يتغلغل نفوذ الجماعات التابعة للحشد الشعبي ذات الصلة بحزب العمال وإيران، وتتقاسم تلك الأطراف السيطرة على المنطقة مع جماعات شتى أبرزها وحدات مقاومة سنجار. ومن أجل مواجهة هذا الوضع، اتخذت الحكومة المركزية العراقية خطوات لتأكيد سيطرتها، فأبرمت اتفاقا في أكتوبر/تشرين الأول 2020 مع كردستان العراق برعاية الأمم المتحدة نصَّ على سيطرة الشرطة العراقية في المنطقة وإبعاد الجماعات المسلحة الأخرى ومنها حزب العمال. وبهذا الاتفاق الذي عُدَّ انتصارا سياسيا للرئيس العراقي "مصطفى الكاظمي"، كونه حصل على موافقة رسمية من حكومة إقليم كردستان، أكَّدت بغداد استعادة سيطرتها بالمنطقة ونأت بنفسها عن التصعيد التركي، وكذلك حافظت على الثقة بين بغداد وأنقرة. هذا ونصَّ الاتفاق كذلك على إنشاء نحو عشر نقاط تفتيش حول سنجار، وإقامة جدار أسمنتي بطول الحدود العراقية-السورية لمنع التسلُّل بين البلدين.
لكن رغم ما سبق، وجدت بغداد صعوبة في تنفيذ التغييرات المرجوة في البنية التحتية الأمنية، حيث أُعيق عمل القوات العراقية بسبب اندماج حزب العمال ووحدات مقاومة سنجار، التي ارتبطت رسميا بوحدات الحشد الشعبي منذ عام 2015. وقد أدى عدم دخول اتفاق أكتوبر 2020 حيز التنفيذ حتى الآن إلى إصابة أنقرة بالإحباط، فلم يتم إخراج حزب العمال من سنجار، وزاد قلق أنقرة من تعزيز وجود الحزب بالمنطقة بما يُمثِّل تهديدا لمصالحها الأمنية، وبناء على ذلك لم يتردَّد وزير الدفاع التركي "خلوصي أكار" خلال زيارته إلى العراق قبل أشهر في طلب موافقة بغداد على العمليات التركية لطرد حزب العمال من سنجار.
يقول الباحث السياسي من كردستان العراق "شاهو القره داغي" إن تركيا تخشى من تحوُّل سنجار إلى نُسخة أخرى من قنديل معقل عناصر حزب العمال وقاعدة عملياته، لكنها تريد في الوقت نفسه أن تعمل بالتنسيق مع الحكومة العراقية لمواجهة هذه المخاطر الأمنية تجنُّبا للتداعيات وردات الفعل الرسمية في بغداد، ومن ثمَّ تقتصر عملياتها على استهدافات معيَّنة ولم يصل الأمر بعد إلى تنفيذ عملية شاملة. وقد أضاف شاهو في حديثه إلى "ميدان" أن إيران عملت سابقا وتعمل حاليا بقوة على تعزيز نفوذ الفصائل التابعة لها في هذه المنطقة، التي تُعَدُّ منطقة إستراتيجية بالنسبة لأطراف عدة داخلية وإقليمية: "يخشى الإيرانيون من تقطيع أوصال نفوذهم في منطقة وسط شمال العراق التي تُهَيمن عليها جماعات الحشد الشعبي لتأمين مصالح إيران، لكن عقدة سنجار وإقليمية الصراع فيها وتعدُّد الجماعات المتقاتلة هناك جعلت الطموح الإيراني مُهدَّدا".
إلى أين يصل الصراع الإقليمي في سنجار؟
في الثامن عشر من إبريل/نيسان الماضي، بدأت أنقرة هجوما بريا وجويا على جيوب محافظة دهوك العراقية ضد المسلحين الأكراد في عملية أُطلِق عليها اسم "قفل المِخلَب". وسرعان ما أطلقت القوات التركية المدفعية وطائرات الهليكوبتر والمُسيَّرات والمقاتلات، كما نُشِرَت القوات الخاصة التركية ووحدات الكوماندوز. انطلقت أنقرة في هذه العملية أُسوة بباقي عملياتها العسكرية شمالي العراق، مُستنِدة إلى "اتفاقية أنقرة" التي وقَّعتها مع بريطانيا والمملكة العراقية عام 1926 لتسوية نزاعها معهما بشأن السيادة على الموصل، وهي اتفاقية يؤكِّد الاتراك أنها تتضمَّن بندا لمكافحة التهديدات القادمة من شمال العراق. وقدَّمت الحكومة التركية مبرِّرات لبدء هذه العملية العسكرية، منها ردع مصادر إطلاق الضربات الصاروخية ضد القاعدة التركية في زيليكان، ومواجهة نفوذ حزب العمال في عمق سنجار، وتطهير ما وصفته بـ"ممر الإرهاب"، وإنشاء مناطق آمنة خالية من حزب العمال.
تُعَدُّ سنجار مجالا حيويا لأنقرة، فهي قريبة من شمال سوريا حيث النفوذ الكردي منذ 2014، كما أنها امتداد لقضاء تلعفر الذي يتصل بالأراضي التركية، ولذا تنظر أنقرة إلى سنجار بوصفها مفترقَ طرقٍ إستراتيجيا لضمان أمنها. وبناء على ما سبق، تسعى تركيا إلى خلخلة النفوذ الكردي بمد وجودها العسكري إلى سنجار كما يخبرنا الباحث العراقي "صفاء خلف". وثمة وجه آخر لدخول تركيا إلى سنجار، حيث تحاول أنقرة شطر الشمال العراقي إلى قسمين، شمالي كردي تحت مظلة إقليم كردستان، وشمالي عربي يُمثِّله الكتف العراقي الشرقي المحاذي للأراضي السورية (تلعفر-سنجار)، وهو ما يُفسِّر تعاونها مع الحكومة العراقية التي تسعى هي الأخرى لبسط هيمنتها في المنطقة على حساب الحشد وحزب العمال.
وقد شدَّد خلف على أن قرار القضاء على الجماعات الكردية سواء المعارضة أو الموالية لا يخضع للقدرة العسكرية، بل لحسابات التوازن والمصالح السياسية، إذ يستمد حزب العمال قوته من استقرار الجماعات الكردية السورية في منطقة شرق الفرات المدعومة أميركيا، ومن ثمَّ رغم تصنيفه جماعة إرهابية من طرف واشنطن، فإنه يستفيد من الدعم المُقدَّم للأكراد السوريين على نحو مؤثر. ثم أضاف خلف قائلا إن "حزب العمال لم يعد حزبا كرديا، بل بات ميليشيا إقليمية متعددة الأذرع، ومن ثمَّ فإن تركيا ستنخرط في مواجهة إقليمية معه لا محالة كي لا تميل الموازين الإقليمية بشكل يقوِّض مصالحها، وقد يتمخَّض عن ذلك مناطق حكم ذاتي مثل منطقة إدارة شرق الفرات الكردية، ومع تزايد احتمالات الصدام المسلح بين القوى السياسية العراقية نتيجة انهيار نظام المحاصصة، فمن المُرجَّح أن تعزل المنطقة السُّنية غرب العراق، وتكون لسنجار إدارة مؤقتة على صلة مباشرة بشرق الفرات" (وهو ما لا تريده تركيا ولا بغداد).
يتوقع تخوبي أن يستمر الصراع الإقليمي بين تركيا وإيران في سنجار لفترة من سنة إلى سنتين، وبالأخص لأن تركيا تُركِّز في عملياتها البرية حاليا على المناطق الحدودية مع العراق.
من جانبه، يؤكد الباحث "تخوبي" أن أي عملية عسكرية تركية خارج حدودها ستواجه معوقات قانونية وعسكرية، لا سيما أن منطقة سنجار لا تجمعها حدود مشتركة مع تركيا، ولذا فإن التوغُّل البري صعب، ويبقى الخيار الوحيد حاليا القصف الجوي واستهداف المقرات عبر طائرات مُسيَّرة. وعلاوة على ذلك، تحاول تركيا الضغط سياسيا على الحكومة العراقية لإخراج عناصر حزب العمال من سنجار عن طريق الجيش العراقي، وقد بسط الجيش العراقي قبل أسابيع بالفعل سيطرته على عدة مواقع لحزب العمال في سنجار وحصلت اشتباكات بين الطرفين. ويتوقع تخوبي أن يستمر الصراع الإقليمي بين تركيا وإيران في سنجار لفترة من سنة إلى سنتين، وبالأخص لأن تركيا تُركِّز في عملياتها البرية حاليا على المناطق الحدودية مع العراق.
على أي حال، يبدو أن ملف سنجار لن يُحسَم بسهولة بسبب تدخُّل جهات إقليمية ودولية، مما يعني إمكانية تحوُّله إلى بؤرة صراع مستقبلية إذا لم يصل الأطراف الضالعون فيه إلى تسوية مُرضية للجميع. ستواجه تركيا صعوبة في تحقيق انتصار سريع في سنجار بسبب بُعدها عن الحدود التركية من جهة، وتبعية سنجار للحكومة المركزية العراقية من جهة ثانية مع استمرار الصعوبات في بسط سيطرتها هناك، والدعم الذي يتلقاه حزب العمال من إيران من جهة ثالثة، لكن الضغط العسكري والسياسي التركي حتى الآن يؤتي أُكله مع الحكومة العراقية، التي تحاول التصدي لحزب العمال كي تدفع عن نفسها سيناريو التدخُّل التركي وانهيار العلاقات مع أنقرة، التي لا تريد هي الأخرى استنزاف قوتها العسكرية في عملية أخرى على حدودها الشمالية الطويلة والمُعقَّدة والمليئة الآن بشتى صنوف الميليشيات من عفرين وحتى الحدود الإيرانية.